اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{أَلَمۡ يَجِدۡكَ يَتِيمٗا فَـَٔاوَىٰ} (6)

ثم أخبر الله تعالى عن حاله التي كان عليها قبل الوحي وذكره نعمه فقال : { أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فآوى } ، العامة على : «فآوى » بألف بعد الهمزة رباعياً .

وأبو الأشهب{[60405]} : «فأوى » ثلاثياً .

قال الزمخشري{[60406]} : «وهو على معنيين : إما من «أواه » بمعنى «آواه » سمع بعض الرعاة يقول : أين آوي هذه الموقسة ؟ وإما من أوى له ، إذا رحمه » . انتهى .

وعلى الثاني قوله : [ الطويل ]

5240- أرَانِي ولا كُفْرانَ للَّهِ أيَّةَ *** لنَفْسِي لقَدْ طَالبْتُ غَيْرَ مُنيلِ{[60407]}

أي : رحمة لنفسي ، ووجه الدلالة من قوله «أين آوي هذه » ، أنه لو كان من الرباعي [ لقال : أُأْوي - بضم الهمزة الأولى وسكون الثانية - لأنه مضارع آوى مثل أكرم ، وهذه الهمزة ] المضمومة هي حرف المضارعة ، والثانية هي فاء الكلمة ، وأما همزة «أفْعَل » فمحذوفة على القاعدة ، ولم تبدل هذه الهمزة كما أبدلت في «أومن » لئلا يستثقل بالإدغام ، ولذلك نص الفراء على أن «تُؤويهِ » من قوله تعالى { وَفَصِيلَتِهِ التي تُؤْوِيهِ } [ المعارج : 13 ] لا يجوز إبدالها للثقل .

فصل

قال ابن الخطيب{[60408]} : «يَجدْكَ » من الوجود الذي بمعنى العلم ، والمفعولان منصوبان ب «وجد » ، والوجود من الله العلم ، والمعنى : ألم يعلمك الله يتيماً فآوى .

قال القرطبي{[60409]} : «يَتِيْماً » لا أب لك ، قد مات أبوك ، «فآوى » ، أي : جعل لك مأوى تأوى إليه عند عمك أبي طالب ، فكفلك .

وقيل لجعفر بن محمد الصادق : لم أوتم النبي صلى الله عليه وسلم من أبويه ؟ .

فقال : لئلاَّ يكون لمخلوق عليه حق .

وعن مجاهدٍ : هو من قول العرب : درة يتيمة إذا لم يكن لها مثل ، فمجاز الآية ألم يجدك واحداً في شرفك ، لا نظير لك ، فآواك الله بأصحاب يحفظونك ، ويحوطونك .

فصل في جواب سؤال

أورد ابن الخطيب هنا سؤالاً : وهو أنه كيف يحسن من الجواد أن يمن بنعمة ، فيقول : { ألمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فآوى } ، ويؤكد هذا السؤال أن الله - تعالى - حكى عن فرعون قوله لموسى عليه الصلاة والسلام : { أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً } [ الشعراء : 18 ] في معرض الذَّم لفرعون فما كان مذموماً من فرعون ، كيف يحسن من الله تعالى ؟ قال : والجواب{[60410]} : أن ذلك يحسن إذا قصد بذلك تقوية قلبه ، ووعده بدوام النعمة ، ولهذا ظهر الفرق بين هذا الامتنان ، وبين امتنان فرعون ، لأن امتنان فرعون معناه : فما بالك لا تخدمني ، وامتنان الله تعالى : زيادة نعمه ، كأنه يقول : ما لك تقطع عني رجاءك ، ألست شرعت في تربيتك أتظنني تاركاً لما صنعته ، بل لا بد وأن أتمّ النعمة كما قال تعالى : { وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ } [ البقرة : 150 ] .

فإن قيل : إن الله تعالى منَّ عليه بثلاثة أشياء ، ثم أمره أن يذكر نعمة ربه ، فما وجه المناسبة ؟ .

فالجوابُ : وجه المناسبة أن تقول : قضاء الدين واجب ، والدين نوعان : مالي وإنعامي ، والإنعامي أقوى وجوباً لأن المال قد يسقط بالإبراء ، والإنعامي يتأكد بالإبراء ، والمالي يقضى مرة فينجو منه الإنسان ، والإنعامي يجب عليه قضاؤه طول عمره ، فإذا تعذر قضاء النعمة القليلة من منعم ، هو مملوك ، فكيف حال النعمة العظيمة من المنعم المالك ، فكان العبد يقول : إلهي أخرجتني من العدم ، إلى الوجود بشراً مستوياً ، طاهر الظاهر نجس الباطن ، بشارة منك ، تستر عليَّ ذنوبي بستر عفوك ، كما سترت نجاستي بالجلد الظاهر ، فكيف يمكنني قضاء نعمتك التي لا حصر لها ، فيقول تبارك وتعالى : الطريق إلى ذلك أن تفعل في حق [ عبيدي ذلك ، وكنت عائلاً فأغنيتك ، فافعل في حق ]{[60411]} الأيتام ذلك ثم إذا فعلت كل ذلك ، فاعلم أنما فعلته بتوفيقي ، ولطفي ، وإرشادي ، فكن أبداً ذاكراً لهذه النعم .


[60405]:ينظر : المحرر الوجيز 5/494، والبحر المحيط 8/481، والدر المصون 6/538.
[60406]:ينظر: الكشاف 4/768.
[60407]:ينظر اللسان (أوا)، والبحر 8/481، وحاشية الدسوقي على المغني 2/51، و6/518.
[60408]:ينظر: الفخر الرازي 31/194.
[60409]:الجامع لأحكام القرآن 20/65.
[60410]:الفخر الرازي 31/195.
[60411]:سقط من ب.