تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته [إخفاء]  
{ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ فَاطِرِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ جَاعِلِ ٱلۡمَلَـٰٓئِكَةِ رُسُلًا أُوْلِيٓ أَجۡنِحَةٖ مَّثۡنَىٰ وَثُلَٰثَ وَرُبَٰعَۚ يَزِيدُ فِي ٱلۡخَلۡقِ مَا يَشَآءُۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ} (1)

مقدمة السورة:

سورة فاطر سورة مكية نزلت بعد سورة الفرقان وقد نزلت سورة فاطر فيما بين الهجرة إلى الحبشة والإسراء .

وإذا قسمنا حياة المسلمين بمكة إلى ثلاثة فترات : الفترة المبكرة للدعوة والفترة المتوسطة فيما بين الهجرة إلى الحبشة والإسراء والفترة الأخيرة فيما بين الإسراء والهجرة إلى المدينة رأينا أن سورة فاطر نزلت في الفترة المتوسطة من حياة المسلمين بمكة .

ولسورة فاطر اسمان : الاسم الأول سورة فاطر والاسم الثاني سورة الملائكة لقوله تعالى في أول السورة : { الحمد لله فاطر السماوات والأرض جاعل الملائكة رسلا أولى أجنحة مثنى وثلاث وربع يزيد في الخلق ما يشاء إن الله على كل شي ء قدير } ( فاطر : 1 )

موضوعات السورة

قال الفيروزبادي :

مقصود سورة فاطر هو : بيان خلق الملائكة ، وفتح أبواب الرحمة ، وتذكير النعمة ، والتحذير من إغواء الشياطين ، وتسلية الرسول ، وصعود كلمة الشهادة إلى الله ، وذكر عجائب البحر واستخراج الحلية منه ، وسير الليل والنهار ، وعجز الأصنام عن الربوبية ، وفقر العباد إلى الله ، وفضل القرآن وشرف تلاوته ، وأصناف الخلق في وراثة القرآن ، وخلود الجنة لأهل الإيمان ، وخلود النار لأهل الكفر والطغيان ، والمنة على العباد بحفظ السماء والأرض من الخلل والاضطراب . . . i

سياق السورة

سورة فاطر لها نسق خاص في موضوعها وفي سياقها أقرب ما تكون إلى نسق سورة الرعد . ››فهي تمضي في إيقاعات تتوالى على القلب البشرى من بدئها إلى نهايتها وهي إيقاعات موحية مؤثرة تهز القلب هزا وتوقظه من غفلته ليتأمل عظمة هدا الوجود وروعة هذا الكون وليتدبر آيات الله المبثوثة في تضاعيفه المتناثرة في صفحاته ، وليتذكر آلاء الله ويشعر برحمته ورعايته وليتصور مصارع الغابرين في الأرض ومشاهدهم يوم القيامة وليخشع ويعنوا وهو يواجه بدائع صنع الله وآثار يده في أطواء الكون وقي أغوار النفس وفي حياة البشر وفي أحداث التاريخ وهو يرى ويلمس قي تلك البدائع وهذه الآثار وحدة الحق ووحدة الناموس ووحدة اليد الصانعة المبدعة القوية القادرة . . ذلك كله قي أسلوب وفي إيقاع لا يتماسك له قلب يحس ويدرك ويتأثر تأثر الأحياء .

والسورة وحدة متماسكة متوالية الحلقات متتالية الإيقاعات ، يصعب تقسيمها إلى فصول متميزة الموضوعات ، فهي كلها موضوع ، كلها إيقاعات على أوتار القلب البشرى تستمد من ينابيع الكون والنفس والحياة والتاريخ والبعث فتأخذ على النفس أقطارها وتهتف بالقلب من كل مطلع إلى الإيمان والخشوع والإذعان

والسمة البارزة الملحوظة هي تجمع الخيوط كلها في يد القدرة المبدعة وإظهار هذه اليد تحرك الخيوط كلها وتجمعها وتقبضها وتبسطها وتشدها وترخيها فلا معقب ولا شريك ولا ظهير ii

فقرات السورة

رغم أن السورة كلها وحدة متماسكة إلا أنها يمكن تقسيمها إلى خمسة موضوعات أو مجموعات :

1- رحمة الله وفضله

إذا تأملنا الآيات من ( 1-8 ) في سورة فاطر نجد فيضا من أنعم الله التي لا تعد ولا تحصى على عباده فهو خالق السماوات والأرض وجاعل الملائكة رسلا يوصلون آثار قدرته وجليل وحيه إلى عباده وإذا لاحظت عناية الله عبدا زالت من أمامه القيود والسدود : { ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها . . . }( فاطر : 2 ) .

لقد فتح الله رحمته لأنبيائه وأصفيائه : جعل النار بردا وسلاما على إبراهيم وأنقذ يوسف من الجب ومن السجن واستجاب دعاء يونس في بطن الحوت وآزر موسى في طريقه إلى فرعون وأنزل رحمته بأصحاب الكهف وحفظهم ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعا وشملت رحمة الله محمدا صلى الله عليه وسلم في الهجرة وهو طريد : { ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا . . . }( التوبة : 40 ) .

وإذا أمسك الله رحمته عن عبد فلن ينفعه مال ولا رجال وإذا استقر اليقين في القلب تنبه إلى كيد الشيطان وفنه ، فالمؤمن يعلم أن الشيطان عدو لنا يزين لنا الشر ليوقعنا في المعصية فمن أطاع الشيطان زين له سوء عمله فرآه حسنا ووقع في الظلال ومن يضلل الله فما له من هاد .

2 – آيات الله في الكون

في الآيات من ( 9 – 10 ) نلاحظ آثار القدرة الإلهية قي نفس الإنسان وفي صفحة الكون وفي الرياح يسوقها الله ، ثم تثير السحب فتسوقها يد القدرة مطرا يحي الأرض بعد موتها وكذلك البعث والحياة بعد الموت والله خالق الإنسان وبيده رعايته قي مراحل تكوينه وتخليقه في بطن أمه ، ثم رعايته وليدا وناشئا وزوجا وهو عليم بمن يموت مبكرا إن ذلك على الله يسير .

وتمتد قدرة الله إلى كل مظهر من مظاهر الوجود فتراها في مشهد البحرين المتميزين أحدهما عذب فرات والأخر ملح أجاج وفيهما من نعم الله على الناس ما يقتضي الشكر والعرفان .

وفي مشهد الليل والنهار يتداخلان ويطولان ويقصران دليل على التقدير والتدبير وكذلك مشهد الشمس والقمر مسخرين بهذا النظام الدقيق .

هذه آثار قدرة الله والذين يدعون من دونه لا يسمعون ولا يستجيبون ، ويوم القيامة يتبرءون من عبادهم الضلال ولا يخبر بهذه الحقائق مثل الإله الخبير

3- الله غني عن عبادتنا

في الآيات من ( 15 – 26 ) بيان لحقيقة أساسية هي أن الله غني عن عبادتنا فلا تنفعه طاعتنا ولا تضره معصيتنا ولكننا نحن الفقراء المحتاجون إلى رضاه وعنايته فمن وجد الله وجد كل شيء : وجد الهداية والسعادة والثقة بالنفس والأمل في الغد ، ومن فقد الله فقد كل شيء ولو شاء الله أن يذهب الناس لأهلكهم وأتى بخلق جديد يعرفون فضله عليهم .

ويشير القرآن إلى أن طبيعة الهدى غير طبيعة الضلال وأن الاختلاف بين طبيعتهما أصل عميق كأصالة الاختلاف ف بين العمى والبصر والظالمات والنور والظل والحرور والموت صلة وشبها ثم تنتهي الجولة بإشارة إلى مصارع المكذبين للتنبيه والتحذير

4 – كتابان إلهيان

عند قراءة الآيات من ( 27 – 38 ) يتضح أمامنا أن لله عز وجل كتابين يدلان عليه : أحدهما كتاب الكون والثاني الكتاب المنزل والمؤمن يقرأ دلائل القدرة قي كتاب الكون : في صحائفه العجيبة الرائعة المتنوعة الألوان والأنواع والأجناس والثمار المتنوعة الألوان والجبال الملونة الشعاب والناس والدواب والأنعام وألوانها المتعددة الكثيرة . . هذه اللفتة العجيبة إلى تلك الصحائف الرائعة في كتاب الكون المفتوح

والمؤمن يقرأ في الكتاب المنزل ويستيقن بما فيه من الحق المصدق لما بين يديه من الكتب المنزلة وتوريث هذا الكتاب للأمة المسلمة ودرجات الوارثين وما ينتظرهم جميعا من نعيم بعد عفو الله وغفرانه للمسيئين ومشهدهم في دار النعيم ومقابلتهم مشهد الكافرين الأليم وتختم الجولة العجيبة المديدة المنوعة الألوان بتقرير أن ذلك كله يتم وفقا لعلم الله العليم بذات الصدور

5 – دلائل الإيمان

تشتمل الآيات من ( 39 – 45 ) على الفقرة الأخيرة من السورة وفيها دلائل يقدمها القرآن ليحرك القلوب نحو الإيمان وتجول الآيات جولات واسعة المدى تشتمل على إيحاءات شتى : جولة مع البشرية في أجيالها المتعاقبة يخلف بعضهما بعضا " وجولة في الأرض و السماوات للبحث عن أي أثر للشركاء الذين يدعونهم من دون الله ، وجولة في السماوات و الأرض كذلك لرؤية يد الله القوية تمسك بالسماوات والأرض أن تزولا وجولة مع هؤلاء المكذبين بتلك الدلائل كلها وهم قد عاهدوا الله من قبل لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم ثم نقضوا هذا العهد وخالفوه فلما جاءهم نذير ما زادهم إلا نفورا وجولة قي مصارع المكذبين من قبلهم وهم يشهدون آثارهم الداثرة ولا يخشون أن تدور عليهم الدائرة وأن تمضى فيهم سنة الله الجارية " iii ثم الختام الموحى الموقظ للقلب المبين فضل الله العظيم قي إمهال العصاة فإن تابوا قبل توبتهم وإن أصروا على المعصية عاقبهم وحاسبهم قال تعالى : ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى فإذا جاء أجلهم فإن الله كان بعباده بصيرا . ( فاطر : 45 )

***

بسم الله الرحمن الرحيم

{ الحمد لله فاطر السماوات والأرض جاعل الملائكة رسلا أولى أجنحة مثنى وثلاث ورباع يزيد في الخلق ما يشاء إن الله على كل شيء قدير( 1 ) ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم( 2 ) يأبها الناس اذكروا نعمت الله عليكم هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض لا إله إلا هو فأنى تأفكون( 3 ) وإن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك وإلى الله ترجع الأمور( 4 ) }

المفردات :

الحمد لله : قولوا الحمد لله فإن واجب الحمد ومقتضى الحمد ما ذكر بعد

فاطرالسماوات والأرض : خالقهما ومبدعهما على غير مثال سابق

جاعل الملائكة رسلا : أي : جعل منهم رسلا إلى الأنبياء كجبريل

أولى أجنحة : ذوى أجنحة جمع جناح كجناح الطائر

مثنى وثلاث ورباع : أي اثنين اثنين ، وثلاثة ثلاثة ، وأربعة أربعة ، حسب مراتبهم

يزيد في الخلق ما يشاء : يزيد بحكمته في بعض مخلوقاته ما يشاء من الزيادات على بعض آخر إن اتفقوا في الجنس والنوع

1

التفسير :

{ الحمد لله فاطر السماوات والأرض جاعل الملائكة رسلا أولى أجنحة مثنى وثلث ورباع يزيد في الخلق ما يشاء إن الله على كل شيء قدير }

الشكر لله منشأ السماوات والأرض من العدم وخالقهما على غير مثال سابق وهو سبحانه جعل الملائكة وسائط بينه وبين عباده لتبليغ رسالات السماء وتصريف الرياح والأمطار والسحاب والأرزاق والعذاب والهداية وغير ذلك ومن هؤلاء الملائكة جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل وهم ذوو أجنحة متعددة بعضهم له جناحان وبعضهم له ثلاثة أجنحة وبعضهم له أربعة أجنحة وبعضهم له أكثر من ذلك ينزلون بها من السماء إلى الأرض ويعرجون بها من الأرض إلى السماء .

جاء في الحديث الصحيح عند مسلم عن ابن مسعود : أن رسول الله صلى الله عليه وسام رأى جبريل عليه السلام وله ستمائة جناح بين كل جناحين كما بين المشرق والمغرب . iv

{ يزيد في الخلق ما يشاء إن الله على كل شيء قدير } يزيد في خلق الملائكة ما يشاء من ناحية عددهم أو في عدد أجنحتهم أو يزيد في جميع الخلق ما يشاء نوعا وعددا وقوة وعقلا وعلما وحسنا وغير ذلك من الكمالات أو ما يقابلها لا يمنعه مانع من تنفيذ مشيئته إن الله على كل شيء قدير وقد تعددت الآراء قي الزيادة في الخلق فقيل : حسن الصوت وملاحة العين وحسن الأنف وحلاوة الفم وحكمة العقل وجودة الرأي وغير ذلك .

قال الزمخشرى في تفسير : { يزيد في الخلق ما يشاء . . . }

الآية مطلقة تتناول كل زيادة في الخلق من طول قامة واعتدال صورة وتمام في الأعضاء وقوة قي البطش وحصافة في العقل وجزالة في الرأي وجرأة قي القلب وسماحة في النفس وذلاقة في اللسان ولباقة في التكلم وحسن تأت قي مزاولة الأمور ما أشبه ذلك مما لا يحيط به الوصف .

 
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي [إخفاء]  
{ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ فَاطِرِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ جَاعِلِ ٱلۡمَلَـٰٓئِكَةِ رُسُلًا أُوْلِيٓ أَجۡنِحَةٖ مَّثۡنَىٰ وَثُلَٰثَ وَرُبَٰعَۚ يَزِيدُ فِي ٱلۡخَلۡقِ مَا يَشَآءُۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ} (1)

مقدمة السورة:

مكية في قول الجميع ، وهي خمس وأربعون آية .

قوله تعالى : " الحمد لله فاطر السماوات والأرض " يجوز في " فاطر " ثلاثة أوجه : الخفض على النعت ، والرفع على إضمار مبتدأ ، والنصب على المدح . وحكى سيبويه : الحمد لله أهل الحمد مثله{[13088]} وكذا " جاعل الملائكة " . والفاطر : الخالق . وقد مضى في " يوسف " {[13089]} وغيرها . والفطر . الشق عن الشيء . يقال : فطرته فانفطر . ومنه : فطر ناب البعير طلع ، فهو بعير فاطر . وتفطر الشيء تشقق . وسيف فطار ، أي فيه تشقق . قال عنترة :

وسيفي كالعقيقة فهو كِمْعِي *** سلاحي لا أفَلَّ ولا فُطَارا{[13090]}

والفطر : الابتداء والاختراع . قال ابن عباس : كنت لا أدري ما " فاطر السموات والأرض " حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر ، فقال أحدهما : أنا فطرتها ، أي أنا ابتدأتها . والفطر . حلب الناقة بالسبابة والإبهام . والمراد بذكر السموات والأرض العالم كله ، ونبه بهذا على أن من قدر على الابتداء قادر على الإعادة . " جاعل الملائكة " لا يجوز فيه التنوين ، لأنه لما مضى . " رسلا " مفعول ثان ، ويقال على إضمار فعل ؛ لأن " فاعلا " إذا كان لما مضى لم يعمل فيه شيئا ، وإعمال على أنه مستقبل حذف التوين منه تخفيفا . وقرأ الضحاك " الحمد لله فطر السموات والأرض " على الفصل الماضي . " جاعل الملائكة رسلا " الرسل منهم جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت ، صلى الله عليهم أجمعين . وقرأ الحسن : " جاعل الملائكة " بالرفع . وقرأ خليد بن نشيط " جعل الملائكة " وكله ظاهر . " أولي أجنحة " نعت ، أي أصحاب أجنحة . " مثنى وثلاث ورباع " {[13091]} أي اثنين اثنين ، وثلاثة ثلاثة ، وأربعة أربعة . قال قتادة : بعضهم له جناحان ، وبعضهم ثلاثة ، وبعضهم أربعة ، ينزلون بهما من السماء إلى الأرض ، ويعرجون من الأرض إلى السماء ، وهي مسيرة كذا في وقت واحد ، أي جعلهم رسلا . قال يحيى بن سلام : إلى الأنبياء . وقال السدي : إلى العباد برحمة أو نقمة . وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى جبريل عليه السلام له ستمائة جناح . وعن الزهري أن جبريل عليه السلام قال له : ( يا محمد ، لو رأيت إسرافيل إن له لاثني عشر ألف جناح منها جناح بالمشرق وجناح بالمغرب ، وإن العرش لعلى كاهله وإنه في الأحايين ليتضاءل لعظمة الله حتى يعود مثل الوصع ، والوصع عصفور صغير حتى ما يحمل عرش ربك إلا عظمته ) . و " أولو " اسم جمع لذو ، كما أن هؤلاء اسم جمع لذا ، ونظيرهما في المتمكنة : المخاض{[13092]} والخلفة . وقد مضى الكلام في " مثنى وثلاث ورباع " في " النساء " {[13093]} وأنه غير منصرف .

قوله تعالى : " يزيد في الخلق ما يشاء " أي في خلق الملائكة ، في قول أكثر المفسرين . ذكره المهدوي . وقال الحسن : " يزيد في الخلق " أي في أجنحة الملائكة ما يشاء . وقال الزهري وابن جريج : يعني حسن الصوت . وقد مضى القول فيه في مقدمة الكتاب{[13094]} . وقال الهيثم الفارسي : رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في منامي ، فقال : ( أنت الهيثم الذي تزين القرآن بصوتك جزاك الله خيرا ) . وقال قتادة : " يزيد في الخلق ما يشاء " الملاحة في العينين والحسن في الأنف والحلاوة في الفم . وقيل : الخط الحسن . وقال مهاجر الكلاعي قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( الخط الحسن يزيد الكلام وضوحا ) . وقيل : الوجه الحسن . وقيل في الخبر في هذه الآية : هو الوجه الحسن والصوت الحسن والشعر الحسن . ذكره القشيري . النقاش : هو الشعر الجعد{[13095]} . وقيل : العقل والتمييز . وقيل : العلوم والصنائع . " إن الله على كل شيء قدير " من النقصان والزيادة . الزمخشري : والآية مطلقة تتناول كل زيادة في الخلق ، من طول قامة ، واعتدال صورة ، وتمام في الأعضاء ، وقوة في البطش ، وحصافة في العقل ، وجزالة في الرأي ، وجرأة في القلب ، وسماحة في النفس ، وذلاقة في اللسان ، ولباقة في التكلم ، وحسن تأت{[13096]} في مزاولة الأمور ، وما أشبه ذلك مما لا يحيط به وصف .


[13088]:زيادة عن كتاب النحاس يقتضيها السياق.
[13089]:راجع ج 9 ص 279، ج 6 ص 397.
[13090]:عقيقة البرق: شعاعه. والكمع (بكسر فسكون) والكميع: الضجيع.
[13091]:في كتاب البحر:" وقيل أولى جنحة" معترض، و "مثنى" حال، والعامل فعل محذوف يدل عليه "رسلا"، أي يرسلون مثنى وثلاث ورباع".
[13092]:المخاض: الحوامل من النوق، واحدتها خلفة على غير قياس ولا واحد لها من لفظها، كما قالوا لواحدة النساء: امرأة، ولواحدة الإبل: ناقة أو بعير.
[13093]:راجع ج 5 ص 15 فما بعد.
[13094]:راجع (باب كيفية التلاوة لكتاب الله تعالى).
[13095]:ما فيه التواء وتقبض. أو القصير منه.
[13096]:تأتى فلان لحاجته: إذا ترفق لها وأتاها من وجهها.
 
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي [إخفاء]  
{ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ فَاطِرِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ جَاعِلِ ٱلۡمَلَـٰٓئِكَةِ رُسُلًا أُوْلِيٓ أَجۡنِحَةٖ مَّثۡنَىٰ وَثُلَٰثَ وَرُبَٰعَۚ يَزِيدُ فِي ٱلۡخَلۡقِ مَا يَشَآءُۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ} (1)

ولما أثبت سبحانه في التي قبلها الحشر الذي هو الإيجاد الثاني ، ودل عليه بجزئيات من القدرة على أشياء في الكون ، إلى أن ختم بأخذ الكفار أخذاً اضطرهم إلى الإيمان بظهور الحمد لهم أتم ظهور ، وبالحيلولة بينهم وبين جميع ما يشتهون كما كانوا متعوا في الدنيا بأغلب ما يشتهون من كثرة الأموال والأولاد ، وما مع ذلك من الراحة من أكثر الأنكاد ، وكان الحمد يكون بالمنع والإعدام ، كما يكون بالإعطاء والإنعام ، قال تعالى ما هو نتيجة ذلك : { الحمد } أي الإحاطة بأوصاف الكمال إعداماً وإيجاداً { لله } أي وحده .

ولما كان الإيجاد من العدم أدل على ذلك ، قال دالاً على استحقاقه للمحامد : { فاطر } أي مبتدئ ومبتدع { السماوات والأرض } أي المتقدم أن له ما فيهما بأن شق العدم بإخراجهما منه ابتداء على غير مثال سبق كما تشاهدون ولما كانت الملائكة إفراداً وجمعاً مثل الخافقين في أن كلاًّ منهم مبدع من العدم على غير مثال سبق من غير مادة ، وكان قد تقدم أنهم يتبرؤون من عبادة الكفرة يوم القيامة ، وكان لا طريق لعامة الناس إلى معرفتهم إلا الخبر ، أخبر عنهم بعد ما أخبر عما طريقه المشاهدة بما هو الحق من شأنهم ، فقال مبيناً بتفاوتهم في الهيئات تمام قدرته وأنها بالاختيار : { جاعل الملائكة رسلاً } أي لما شاء من مراده وإلى ما شاء من عباده ظاهرين للأنبياء منهم ومن لحق بهم وغير ظاهرين { أولي أجنحة } أي تهيؤهم لما يراد منهم ؛ ثم وصف الأجنحة فقال ( مثنى ) أي جناحين جناحين لكل واحد لمن لا يحتاج فيما صرف فيه إلى أكثر من ذلك ، ولعل ذكره للتنبيه على أن ذلك أقل ما يكون بمنزلة اليدين . ولما كان ذلك زوجاً نبه على أنه لا يتقيد بالزوج فقال : { وثلاث } أي ثلاثة ثلاثة لآخرين منهم . ولما كان لو اقتصر على ذلك لظن الحصر فيه ، نبه بذكر زوج الزوج على أن الزيادة لا تنحصر فقال : { ورباع } أي أربعة أربعة لكل واحد من صنف آخر منهم .

ولما ثبت بهذا أنه فاعل بالاختيار دون الطبيعة وغيرها ، وإلا لوجب كون الأشياء غير مختلفة مع اتحاد النسبة إلى الفاعل ، كانت نتيجة ذلك : { يزيد في الخلق } أي المخلوقات من أشياء مستقلة ومن هيئات للملائكة وغيرهم ومعاني لا تدخل تحت حصر من الذوات والألوان والمقادير والأشكال وخفة الروح واللطافة والثقالة والكثافة وحسن الصوت والصيت والفصاحة والسذاجة والمكر والسخاوة والبخل وعلو الهمة وسفولها - وغير ذلك مما يرجع إلى الكم والكيف مما لا يقدر على الإحاطة به غيره سبحانه ، فبطل قول من قال : إنه فرغ من الخلق في اليوم السابع عند ما أتم خلق آدم فلم يبق هناك زيادة ، كاليهود وغيرهم على أن لهذا المذهب من الضعف والوهي ما لا يخفى غير أنه سبحانه أوضح جميع السبل ، ولم يدع بشيء منها لبساً : { ما يشاء } فلا بدع في أن يوجد داراً أخرى تكون لدينونة العباد ، ثم علل ذلك كله بقوله مؤكداً لأجل إنكارهم البعث : { إن الله } أي الجامع لجميع أوصاف الكمال { على كل شيء قدير * } فهو قادر على البعث فاعل له لا محالة .

وقال الإمام أبو جعفر ابن الزبير : لما أوضحت سورة سبأ أنه سبحانه مالك السماوات والأرض ، ومستحق الحمد في الدنيا والآخرة ، أوضحت هذه السورة أن ذلك خلقه كما هو ملكه ، وأنه الأهل للحمد والمستحق ، إذ الكل خلقه وملكه ، ولأن السورة الأولى تجردت لتعريف العباد بأن الكل ملكه وخلقه دارت آيها على تعريف عظيم ملكه ، فقد أعطي داود وسليمان عليهما السلام ما هو كالنقطة من البحار الزاخرة ، فلان الحديد وانقادت الرياح والوحوش والطير والجن والإنس مذللة خاضعة

{ قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير }[ سبأ : 22 ] تعالى ربنا عن الظهير والشريك والند ، وتقدس ملكه عن أن تحصره العقول أو تحيط به الأفهام ، فتجردت سورة سبأ لتعريف العباد بعظيم ملكه سبحانه ، وتجردت هذه الأخرى للتعريف بالاختراع والخلق ، ويشهد لهذا استمرار آي سورة فاطر على هذا الغرض من التعريف وتنبيهها على الابتداءات كقوله تعالى { جاعل الملائكة رسلاً أولي أجنحة مثنى } الآية ، وقوله { ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها هل من خالق غير الله يرزقكم } وقوله : { أفمن زين له سوء عمله فرآه حسناً } الآية ، وقوله : { الله الذي أرسل الرياح فتثير سحاباً } الآية { والله خلقكم من تراب يولج اليّل في النهار ويولج النهار في اليّل } { ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفاً ألوانها } { هو الذي جعلكم خلائف في الأرض } { إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا } فهذه عدة آيات معرفة بابتداء الخلق ، والاختراع أو مشيرة ولم يقع من ذلك في سورة سبأ آية واحدة ، ثم إن سورة سبأ جرت آيها على نهج تعريف الملك والتصرف فيه والاستبداد بذلك والإبداد ، وتأمل افتتاحها وقصة داود وسليمان عليهما السلام ، وقوله سبحانه { قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة } الآيات يتضح لك ما ذكرناه وما انجرّ في السورتين مما ظاهره الخروج عن هاذين الغرضين فملتحم ومستدعى بحكم الانجرار بحسب استدعاء مقاصد الآي - رزقنا الله الفهم عنه بمنه وكرمه - انتهى .