مكية ، وهي مائة وخمس وستون آية ، نزلت بمكة جملة ، ليلاً معها سبعون ألف ملك ، قد سدوا ما بين الخافقين ، لهم زجل بالتسبيح والتحميد والتمجيد ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( سبحان ربي العظيم ، سبحان ربي العظيم ، وخر ساجداً ) . وروي مرفوعاً : ( من قرأ سورة الأنعام يصلي عليه أولئك السبعون ألف ملك ليله ونهاره ) . وقال الكلبي عن أبي صالح ، عن ابن عباس رضي الله عنهما : " نزلت سورة الأنعام بمكة ، إلا قوله : { وما قدروا الله حق قدره } إلى آخر ثلاث آيات ؛ وقوله تعالى : { قل تعالوا } إلى قوله : { لعلكم تتقون } ، فهذه الست آيات مدنيات " .
قوله تعالى : { الحمد لله الذي خلق السموات والأرض } ، قال كعب الأحبار : هذه الآية أول آية في التوراة ، وآخر آية في التوراة ، قوله تعالى : { الحمد لله الذي لم يتخذ ولداً } الآية ، [ الإسراء :111 ] . وقال ابن عباس رضي الله عنهما : افتتح الله الخلق بالحمد ، فقال : { الحمد لله الذي خلق السموات والأرض } ، وختمه بالحمد فقال :{ وقضي بينهم بالحق } ، أي : بين الخلائق ، { وقيل الحمد لله رب العالمين } [ الزمر :75 ] . قوله : { الحمد لله } حمد الله نفسه تعليماً لعباده ، أي : احمدوا الله الذي خلق السموات والأرض ، خصهما بالذكر لأنهما أعظم المخلوقات فيما يرى العباد ، وفيهما العبر والمنافع للعباد .
قوله تعالى : { وجعل الظلمات والنور } ، والجعل بمعنى الخلق ، وقال الواقدي : كل ما في القرآن من الظلمات والنور فهو الكفر والإيمان ، إلا في هذه الآية ، فإنه يريد بهما الليل والنهار . وقال الحسن : { وجعل الظلمات والنور } يعني الكفر والإيمان ، وقيل : أراد بالظلمات الجهل ، وبالنور العلم . وقال قتادة : يعني الجنة والنار . وقيل معناه : خلق الله السموات والأرض ، وقد جعل الظلمات والنور ، لأنه خلق السموات والنور قبل السموات ولأرض ، قال قتادة : خلق الله السموات قبل الأرض ، وخلق الظلمة قبل النور ، والجنة قبل النار ، وروي عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إن الله تعالى خلق الخلق في ظلمة ، ثم ألقى عليهم من نوره ، فمن أصابه من ذلك النور اهتدى ، ومن أخطأه ضل ) .
قوله تعالى : { ثم الذين كفروا بربهم يعدلون } ، أي : ثم الذين كفروا بعد هذا البيان بربهم يعدلون ، أي : يشركون ، وأصله من مساواة الشيء بالشيء ، ومنه العدل ، أي : يعدلون بالله غير الله تعالى ، يقال : عدلت هذا بهذا إذا ساويته ، وبه قال النضر بن شميل : الباء بمعنى " عن " ، أي : عن ربهم يعدلون ، أي يميلون ، وينحرفون ، من العدول ، قال الله تعالى : { عيناً يشرب بها عباد الله } أي : منها . وقيل : تحت قوله { ثم الذين كفروا بربهم يعدلون } معنى لطيف ، وهو مثل قول القائل : أنعمت عليكم بكذا ، وتفضلت عليكم بكذا ، ثم تكفرون بنعمتي ؟ .
{ 1 ، 2 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ * هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ }
هذا إخبار عن حمده والثناء عليه بصفات الكمال ، ونعوت العظمة والجلال عموما ، وعلى هذه المذكورات خصوصا . فحمد نفسه على خلقه السماوات والأرض ، الدالة على كمال قدرته ، وسعة علمه ورحمته ، وعموم حكمته ، وانفراده بالخلق والتدبير ، وعلى جعله الظلمات والنور ، وذلك شامل للحسي من ذلك ، كالليل والنهار ، والشمس والقمر . والمعنوي ، كظلمات الجهل ، والشك ، والشرك ، والمعصية ، والغفلة ، ونور العلم والإيمان ، واليقين ، والطاعة ، وهذا كله ، يدل دلالة قاطعة أنه تعالى ، هو المستحق للعبادة ، وإخلاص الدين له ، ومع هذا الدليل ووضوح البرهان { ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ } أي يعدلون به سواه ، يسوونهم به في العبادة والتعظيم ، مع أنهم لم يساووا الله في شيء من الكمال ، وهم فقراء عاجزون ناقصون من كل وجه .
{ الْحَمْدُ للّهِ الّذِي خَلَقَ السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَجَعَلَ الظّلُمَاتِ وَالنّورَ ثْمّ الّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ يَعْدِلُونَ } .
يعني تعالى ذكره بقوله الحَمْدُ للّهِ : الحمد الكامل لله وحده لا شريك له ، دون جميع الأنداد والاَلهة ، ودون ما سواه مما تعبده كفرة خلقه من الأوثان والأصنام . وهذا كلام مخرجه مخرج الخبر يُنْحَى به نحو الأمر ، يقول : أخلصوا الحمد والشكر للذي خلقكم أيها الناس وخلق السموات والأرض ، ولا تشركوا معه في ذلك أحدا شيئا ، فإنه المستوجب عليكم الحمد بأياديه عندكم ونعمة عليكم ، لا من تعبدونه من دونه وتجعلونه له شريكا من خلقه . وقد بينا الفصل بين معنى الحمد والشكر بشواهده فيما مضى قبل .
القول في تأويل قوله تعالى : وَجَعَلَ الظّلُمَاتِ والنّورَ .
يقول تعالى ذكره : الحمد لله الذي خلق السموات والأرض ، وأظلم الليل وأنار النهار . كما :
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : وَجَعَلَ الظّلُمَاتِ والنّورَ قال : الظلمات : ظلمة الليل ، والنور : نور النهار .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، أما قوله : الحَمْدُ للّهِ الّذِي خَلَقَ السّمَوَاتِ والأرْضَ وَجَعَلَ الظّلْمَاتِ والنّورِ فإنه خلق السموات قبل الأرض ، والظلمة قبل النور ، والجنة قبل النار .
فإن قال قائل : فما معنى قوله إذن «جَعَلَ » ؟ قيل : إن العرب تجعلها ظرفا للخبر والفعل ، فتقول : جعلت أفعل كذا ، وجعلت أقوم وأقعد ، تدلّ بقولها «جعلت » على اتصال الفعل ، كما تقول : علقت أفعل كذا ، لا أنها في نفسها فعل ، يدلّ على ذلك قول القائل : جعلت أقوم ، وأنه لا جعل هناك سوى القيام ، وإنما دلّ بقوله «جعلت » على اتصال الفعل ودوامه ، ومن ذلك قول الشاعر :
وزَعَمْتَ أنّكَ سوْفَ تسْلُكُ فَارِدا ***والمَوْتُ مُكْتَنِعٌ طَرِيقَيْ قادِرِ
فاجْعَلْ تَحَلّلْ مِنْ يَمِينِكَ إنّمَا ***حِنْثُ اليَمِينِ على اللّئِيمِ الفاجِرِ
يقول «فاجعل تحلّل » بمعنى : تحلل شيئا بعد شيء ، لا أن هناك جعلاً من غير التحليل . فكذلك كلّ جعل في الكلام إنما هو دليل على فعل له اتصال ، لا أن له خطا في معنى الفعل فقوله : وَجَعَلَ الظّلُماتِ والنّورَإنما هو أظلم ليلهما وأنار نهارهما .
القول في تأويل قوله تعالى : ثُمّ الّذِينَ كَفَرُوا بِرَبّهِمْ يَعْدِلُونَ .
يقول تعالى ذكره معجّبا خلقه المؤمنين من كفرة عباده ومحتجّا على الكافرين : إن الإله الذي يجب عليكم أيها الناس حمده هو الذي خلق السموات والأرض ، الذي جعل منهما معايشكم وأقواتكم وأقوات أنعامكم التي بها حياتكم ، فمن السموات ينزل عليكم الغيث وفيها تجري الشمس والقمر باعتقاب واختلاف لمصالحكم ومنافعكم بها . والذين يجحدون نعمة الله عليهم بما أنعم الله عليهم بما أنعم به عليهم من خلق ذلك لهم ولكم أيها الناس بربهم الذي فعل ذلك وأحداثه يَعْدِلُونَ : يجعلون له شريكا في عبادتهم إياه ، فيعبدون معه الاَلهة والأنداد والأصنام والأوثان ، وليس منها شيء شركه في خلق شيء من ذلك ولا في إنعامه عليهم بما أنعم به عليهم ، بل هو المنفرد بذلك كله ، وهم يشركون في عبادتهم إياه غيره . فسبحان الله ما أبلغها من حجة وأوجزها من عظة ، لمن فكّر فيها بعقل وتدبرها بفهم ولقد قيل إنها فاتحة التوراة .
حدثنا سفيان بن وكيع ، قال : حدثنا عبد العزيز بن عبد الصمد العمّي ، عن أبي عمران الجونّي ، عن عبد الله بن رباح ، عن كعب ، قال : فاتحة التوراة فاتحة الأنعام : الحَمْدُ للّهِ الّذِي خَلَقَ السّمَوَاتِ والأرْضَ وجَعَلَ الظّلُماتِ والنّورَ ثُمّ الّذِينَ كَفَرُوا بِرَبّهِمْ يَعْدِلُونَ .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا زيد بن حباب ، عن جعفر بن سليمان ، عن أبي عمران الجونّي ، عن عبد الله ابن رباح ، عن كعب ، مثله . وزاد فيه : وخاتمة التوراة خاتمة هود .
يقال من مساواة الشيء بالشيء : عدلت هذا بهذا ، إذا ساويته به عدلاً . وأما في الحكم إذا أنصفت فيه ، فإنك تقول : عَدَلْت فيه أعدل عدلاً .
وينحو الذي قلنا في تأويل قوله : يَعْدِلُونَ قال أهل التأويل .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : يَعْدِلُونَ قال : يشركون .
ثم اختلف أهل التأويل فيمن عُنِي بذلك ، فقال بعضهم : عُنِي به أهل الكتاب .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يعقوب القمى ، عن جعفر بن أبي المغيرة ، عن ابن أبزى ، قال : جاءه رجل من الخوارج يقرأ عليه هذه الاَية : الحَمْدُ للّهِ الّذِي خَلَقَ السّمَوَاتِ والأرْضَ وجَعَلَ الظّلُمَاتِ والنّورِ ثُمّ الّذِينَ كَفَرُوا بِرَبّهِمْ يَعْدِلُونَ قال له : أليس الذين كفروا بربهم يعدلون ؟ قال : بلى . قال : وانصرف عنه الرجل ، فقال له رجل من القوم : يا ابن أبزى ، إن هذا قد أراد تفسير هذه غير هذا ، إنه رجل من الخوارج فقال : ردّوه عليّ فلما جاءه قال : هل تدري فيمن نزلت هذه الاَية ؟ قال : لا . قال إنها نزلت في أهل الكتاب ، اذهب ولا تضعها على غير حدّها .
وقال آخرون : بل عُنى بها المشركون من عبدة الأوثان .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : ثُمّ الّذِينَ كَفَرُوا بِرَبّهِمْ يَعْدِلُونَ قال : هؤلاء أهل صراحة .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : ثُمّ الّذِينَ كَفَرُوا بِرَبّهِمْ يَعْدِلُونَ قال : هم المشركون .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ثُمّ الّذِينَ كَفَرُوا بِرَبّهِمْ يَعْدِلُونَ قال : الاَلهة التي عبدوها عدلوها بالله قال : وليس بالله عِدْل ولا ندّ ، وليس معه آلهة ، ولا اتخذ صاحبة ولا ولدا .
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب عندي أن يقال : إن الله تعالى أخبر أن الذين كفروا بربهم يعدلون ، فعمّ بذلك جميع الكفار ، ولم يخصص منهم بعضا دون بعض ، فجميعهم داخلون في ذلك : يهودهم ، ونصاراهم ، ومجوسهم ، وعبدة الأوثان منهم ومن غيرهم من سائر أصناف الكفر .
{ الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض } أخبر بأنه سبحانه وتعالى حقيق بالحمد ، ونبه على أنه المستحق له على هذه النعم الجسام حمد أو يحمد ، ليكون حجة على الذين هم بربهم يعدلون ، وجمع السماوات دون الأرض وهي مثلهن لأن طبقاتها مختلفة بالذات متفاوتة الآثار والحركات ، وقدمها لشرفها وعلو مكانها وتقدم وجودها . { وجعل الظلمات والنور أنشأهما والفرق بين خلق وجعل الذي له مفعول واحد أن الخلق فيه معنى التقدير والجعل فيه معنى التضمن . ولذلك عبر عن إحداث النور والظلمة بالجعل تنبيها على أنهما لا يقومان بأنفسهما كما زعمت الثنوية ، وجمع الظلمات لكثرة أسبابها والأجرام الحاملة لها ، أو لأن المراد بالظلمة الضلال ، وبالنور الهدى والهدى واحد والضلال متعدد ، وتقديمها لتقدم الإعدام على الملكات . ومن زعم أن الظلمة عرض يضاد النور احتج بهذه الآية ولم يعلم أن عدم الملكة كالعمى ليس صرف العدم حتى لا يتعلق به الجعل . { ثم الذين كفروا بربهم يعدلون } عطف على قوله الحمد لله على معنى أن الله سبحانه وتعالى حقيق بالحمد على ما خلقه نعمة على العباد ، ثم الذين كفروا به يعدلون فيكفرون نعمته ويكون بربهم تنبيها على أنه خلق هذه الأشياء أسبابا لتكونهم وتعيشهم ، فمن حقه أن يحمد عليها ولا يكفر ، أو على قوله خلق على معنى أنه سبحانه وتعالى خلق ما لا يقدر عليه أحد سواه ، ثم هم يعدلون به ما لا يقدر على شيء منه . ومعنى ثم : استبعاد عدولهم بعد هذا البيان ، والباء على الأول متعلقة بكفروا وصلة يعدلون محذوفة أي يعدلون عنه ليقع الإنكار على نفس الفعل ، وعلى الثاني متعلقة ب{ يعدلون } والمعنى أن الكفار يعدلون بربهم الأوثان أي يسوونها به سبحانه وتعالى .
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وسلم تسليما كثيرا
قيل هي كلها مكية وقال ابن عباس نزلت بمكة ليلا جملة إلا ست آيات وهي ' { قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم } ' وقوله ' { وما قدروا الله حق قدره } ' وقوله تعالى ' { ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي } ' وقوله ' { ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطو أيديهم } ' وقوله ' { والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك } ' وقوله ' { والذين آتيناهم الكتاب يعرفونه }'{[1]} وقال الكلبي الأنعام كلها مكية إلا آيتين نزلتا بالمدينة في فنحاص اليهودي وهي{[2]} ' { قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى } ' مع ما يرتبط بهذه الآية وذلك أن فنحاصا قال ما أنزل الله على بشر من شيء .
وقال ابن عباس نزلت سورة الأنعام وحولها سبعون ألف ملك لهم زجل{[3]} يجأرون بالتسبيح . وقال كعب فاتحة التوراة فاتحة الأنعام ' { الحمد لله } ' إلى ' { يعدلون } ' وخاتمة التوراة خاتمة هود ' { وما ربك بغافل عما تعملون } ' وقيل خاتمتها ' { وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له ' إلى ' تكبيرا }'{[4]} .
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه الأنعام من نجائب القرآن{[5]} .
وقال علي بن أبي طالب من قرأ سورة الأنعام فقد انتهى في رضى ربه{[6]} .
هذا تصريح بأن الله تعالى هو الذي يستحق الحمد بأجمعه . لأن الألف واللام في { الحمد } لاستغراق الجنس ، فهو تعالى له الأوصاف السنية والعلم والقدرة والإحاطة والأنعام ، فهو أهل للمحامد على ضروبها وله الحمد الذي يستغرق الشكر المختص بأنه على النعم ، ولما ورد هذا الإخبار تبعه ذكر بعض أوصافه الموجبة للحمد ، وهي الخلق «للسماوات والأرض » قوام الناس وأرزاقهم ، { والأرض } ها هنا للجنس فإفرادها في اللفظ بمنزلة جمعها ، والبادي من هذا الترتيب أن السماء خلقت من قبل الأرض ، وقد حكاه الطبري عن قتادة ، وليس كذلك لأن الواو لا ترتب المعاني ، والذي ينبني من مجموع آي القرآن أن الله تعالى خلق الأرض ولم يدحها ثم استوى إلى السماء فخلقها ثم دحا الأرض بعد ذلك ، و { جعل } ها هنا بمعنى خلق لا يجوز غير ذلك ، وتأمل لم خصت { السماوات والأرض } ب { خلق } و { الظلمات والنور } ب { جعل }{[4814]} ؟ وقال الطبري { جعل } هذه هي التي تتصرف في طرق الكلام كما تقول جعلت كذا فكأنه قال وجعل إظلامها وإنارتها .
قال القاضي أبو محمد : وهذا غير جيد ، لأن { جعل } إذا كانت على هذا النحو فلا بد أن يرتبط معها فعل آخر كما يرتبط في أفعال المقاربة كقولك كاد زيد يموت ، «جعل » زيد يجيء ويذهب ، وأما إذا لم يرتبط معها فعل فلا يصح أن تكون تلك التي ذكر الطبري{[4815]} .
وقال السدي وقتادة والجمهور من المفسرين : { الظلمات } الليل و { النور } النهار ، وقالت فرقة : { الظلمات } الكفر و { النور } الإيمان .
قال القاضي أبو محمد : وهذا غير جيد لأنه إخراج لفظ بين في اللغة عن ظاهره الحقيقي إلى باطن لغير ضرورة ، وهذا هو طريق اللغز الذي برىء القرآن منه ، و { النور } أيضاً هنا للجنس فإفراده بمثابة جمعه{[4816]} .
وقوله تعالى : { ثم } دالة على قبح فعل { الذين كفروا } لأن المعنى أن خلقه «السموات والأرض » وغيرهما قد تقرر ، وآياته قد سطعت ، وأنعامه بذلك قد تبين ثم بعد هذا كله عدلوا بربهم ، فهذا كما تقول : يا فلان أعطيتك وأكرمتك وأحسنت إليك ثم تشتمني ، أي بعد مهلة من وقوع هذا كله ، ولو وقع العطف في هذا ونحوه بالواو لم يلزم التوبيخ كلزومه ب { ثم } ، { الذين كفروا } في هذا الموضع هم كل من عبد شيئاً سوى الله قال قتادة : هم أهل الشرك خاصة ، ومن خصص من المفسرين في ذلك بعضاً دون بعض فلم يصب ، إلا أن السابق من حال النبي صلى الله عليه وسلم أن الإشارة إلى عبدة الأوثان من العرب لمجاورتهم له ، ولفظ الآية أيضاً يشير إلى المانوية{[4817]} ، ويقال الماننية العابدين للنور القائلين إن الخير من فعل النور والشر من فعل الظلام ، وقول ابن أبزى :«إن المراد أهل الكتاب بعيد » . و { يعدلون } معناه يسوون ويمثلون ، وِعدل الشيء قرينه ومثيله ، والمنوية مجوس ، وورد في مصنف أبي داود حديث وهو القدرية مجوس هذه الأمة{[4818]} ، ومعناه الإغلاظ عليهم والذم لهم في تشبيههم بالمجوس وموضع الشبه هو أن المجوس تقول الأفعال خيرها خلق النور وشرها خلق الظلمة فجعلوا خالقاً غير الله ، والقدرية تقول الإنسان يخلق أفعاله فجعلوا خالقاً غير الله تعالى عن قولهم ، وذهب أبو المعالي إلى التشبيه بالمجوس إنما هو قول القدرية : إن الخير من الله وإن الشر منه ولا يريده ، وإنما قلنا في الحديث إنه تغليظ لأنه قد صرح أنهم من الأمة ولو جعلهم مجوساً حقيقة لم يضفهم إلى الأمة ، وهذا كله أن لو صح الحديث والله الموفق .