يخبر الله تعالى عن كمال قدرته وعظيم سلطانه : أنه الذي بإذنه وأمره رَفَع السماوات بغير عمَد ، بل بإذنه وأمره{[15412]} وتسخيره رفعها عن الأرض بُعدًا لا تنال ولا يدرك مداها ، فالسماء الدنيا محيطة
بجميع الأرض وما حولها من الماء والهواء من جميع نواحيها وجهاتها{[15413]} وأرجائها ، مرتفعة عليها من كل جانب على السواء ، وبعد ما بينها وبين الأرض من كل ناحية مسيرة خمسمائة عام ، وسمكها في نفسها مسيرة خمسمائة عام . ثم السماء الثانية محيطة بالسماء الدنيا وما حوت ، وبينها وبينها من البعد مسيرة خمسمائة عام ، وسمكها خمسمائة عام ، ثم السماء الثالثة محيطة{[15414]} بالثانية ، بما فيها ، وبينها{[15415]} وبينها خمسمائة عام ، وسمكها خمسمائة عام ، وكذا الرابعة والخامسة والسادسة والسابعة ، كما قال [ الله ]{[15416]} تعالى : { اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنزلُ الأمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا } [ الطلاق : 12 ] وفي الحديث : " ما السماواتُ السبع وما فيهنّ وما بينهن في الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فَلاة ، والكرسي في العرش كتلك{[15417]} الحلقة في تلك الفلاة{[15418]} وفي رواية : " والعرش لا يقدر قدره إلا الله ، عز وجل ، وجاء عن بعض السلف أن بعد ما بين العرش إلى الأرض مسيرة خمسين ألف سنة ، وبعد ما بين قطريه مسيرة خمسين ألف سنة ، وهو من ياقوتة حمراء .
وقوله : { بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا } روي عن ابن عباس ، ومجاهد ، والحسن ، وقتادة : أنهم : قالوا : لها عَمَد ولكن لا ترى .
وقال إياس بن معاوية : السماء على الأرض مثل القبة ، يعني بلا عمد . وكذا روي عن قتادة ، وهذا هو اللائق بالسياق . والظاهر من قوله تعالى : { وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأرْضِ إِلا بِإِذْنِهِ } [ الحج : 65 ] فعلى هذا يكون قوله : { ترونها } تأكيدا لنفي ذلك ، أي : هي مرفوعة بغير عمد كما ترونها . هذا هو الأكمل في القدرة . وفي شعر أمية بن أبي الصلت الذي آمن شعره وكفر قلبه ، كما ورد في الحديث{[15419]} ويروى لزيد بن عمرو بن نفيل ، رحمه الله ورضي عنه :
وأنتَ الذي مِنْ فَضْل مَنٍّ وَرَحْمَة *** بَعَثتَ إلى مُوسَى رَسُولا مُنَاديا
فقلت له : فاذهَبْ وهارونَ فادعُوَا *** إلى الله فرْعَونَ الذي كانَ طَاغيا
وَقُولا له : هَلْ أنتَ سَوّيت هَذه *** بلا [ وتَد حَتَّى اطمأنت{[15420]} كَمَا هيا
وقُولا له : أأنتَ رَفَّعتَ هَذه *** بلا ]{[15421]} عَمَد أرْفِقْ إذَا بَِك بانيَا ؟
وَقُولا لَه : هَل أنتَ سَوَّيت وَسْطَهَا *** مُنيرًا إذا ما جَنَّك الليَّل هاديا
وقُولا له : مَنْ يُرْسِلُ الشَّمس غُدوةً *** فيُصبحَ ما مَسَّتْ مِنَ الأرضِ ضَاحيا?
وَقُولا له : مَن يُنْبِت الحَبَّ في الثَّرَى *** فيُصبحَ مِنْه العُشب يَهَْتُّز رَابيا?
وَيُْخِرجُ منْه حَبَّه في رءوسه *** فَفِي ذَاكَ آياتٌ لِمنْ كَانَ وَاعيَا{[15422]}
وقوله : { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } تقدم تفسير ذلك في سورة " الأعراف " {[15423]} وأنه يُمَرَّر{[15424]} كما جاء من غير تكييف ، ولا تشبيه ، ولا تعطيل ، ولا تمثيل ، تعالى الله علوا كبيرا .
وقوله : { وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأجَلٍ مُسَمًّى } قيل : المراد أنهما يجريان إلى انقطاعهما بقيام الساعة ، كما في قوله تعالى : { وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ } [ يس : 38 ] .
وقيل : المراد إلى مستقرهما ، وهو تحت العرش مما يلي بطن الأرض من الجانب الآخر ، فإنهما وسائر الكواكب إذا وصلوا هنالك ، يكونون أبعد ما يكون{[15425]} عن العرش ؛ لأنه على الصحيح الذي تقومُ عليه الأدلة ، قبة مما يلي العالم من هذا الوجه ، وليس بمحيط كسائر الأفلاك ؛ لأنه{[15426]} له قوائم وحملة يحملونه . ولا يتصوّر هذا في الفلك المستدير ، وهذا واضح لمن تَدَبَّر ما وَرَدَتْ به الآيات والأحاديث الصحيحة ، ولله الحمد والمنة .
وذكر الشمس والقمر ؛ لأنهما أظهر الكواكب السيارة السبعة ، التي هي أشرف وأعظم .
من الثوابت ، فإذا كان قد سخر هذه ، فَلأن يدخل في التسخير سائرُ الكواكب بطريق الأولى والأحرى ، كما نبه{[15427]} بقوله تعالى : { لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } [ فصلت : 37 ] مع أنه قد صرح بذلك بقوله{[15428]} { وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } [ الأعراف : 54 ] .
وقوله : { يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ } أي : يوضح{[15429]} الآيات والدلالات الدالة على أنه لا إله إلا هو ، وأنه يعيد الخلق إذا شاء كما ابتدأ خلقه .
القول في تأويل قوله تعالى : { اللّهُ الّذِي رَفَعَ السّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمّ اسْتَوَىَ عَلَى الْعَرْشِ وَسَخّرَ الشّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلّ يَجْرِي لأجَلٍ مّسَمّى يُدَبّرُ الأمْرَ يُفَصّلُ الاَيَاتِ لَعَلّكُمْ بِلِقَآءِ رَبّكُمْ تُوقِنُونَ } .
يقول تعالى ذكره : الله يا محمد هو الذي رفع السموات السبع بغير عمد ترونها ، فجعلها للأرض سقفا مسموكا . والعمد جمع عمود ، وهي السواري ، وما يُعْمد به البناء ، كما قال النابغة :
وخَيّسُ الجِنّ إنّي قدْ أذِنْتُ لهُمْ *** يَبْنُونَ تَدْمُرَ بالصّفّاح والعَمَدِ
وجمع العمود : عَمَد ، كما جمع الأديم : أَدَم ، ولو جمع بالضم فقيل : عُمُد جاز ، كما يجمع الرسول : رُسُل ، والشّكُور : شُكُر .
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله : رَفَعَ السّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها فقال بعضهم : تأويل ذلك : الله الذي رفع السموات بعمَد لا ترونها . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أحمد بن هشام ، قال : حدثنا معاذ بن معاذ ، قال : حدثنا عمران بن حدير ، عن عكرمة ، قال : قلت لابن عباس : إن فلانا يقول : إنها على عَمَد ، يعني السماء ؟ قال : فقال : اقرأها «بغيرِ عَمَدٍ تَرَونها » : أي لا ترونها .
حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح ، قال : حدثنا معاذ بن معاذ ، عن عمران بن حُدَير ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، مثله .
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا عفان ، قال : حدثنا حماد ، قال : حدثنا حميد ، عن الحسن بن مسلم ، عن مجاهد ، قوله : بغَيُرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها قال : بعمد لا ترونها .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحجاج ، قال : حدثنا حماد ، عن حميد ، عن الحسن بن مسلم ، عن مجاهد ، في قول الله : بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوَنْهَا قال : هي لا ترونها .
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا شبابة ، قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد بغير عمد يقول : عمد .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن الحسن وقتادة ، قوله : اللّهُ الّذِي رَفَعَ السّمَوَاتِ بغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها قال قتادة : قال ابن عباس : بعَمَد ولكن لا ترونها .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا شريك ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قوله : رَفَعَ السّمَوَاتِ بغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها قال : ما يدريك لعلها بعمد لا ترونها ؟
ومن تأوّل ذلك كذلك ، قصد مذهب تقديم العرب الجحد من آخر الكلام إلى أوّله ، كقول الشاعر :
ولا أرَاها تَزَالُ ظالِمَةً *** تُحْدِثُ لي نَكْبَةً وتَنْكَؤُها
يريد : أراها لا تزال ظالمة ، فقدم الجحد عن موضعه من تزال ، وكما قال الاَخر :
إذَا أعْجَبَتْكَ الدّهْر حالٌ منِ امْرِىءٍفَدَعْهِ وَوَاكِلْ حالَهُ واللّيالِيا
يَجِئْنَ على ما كانَ مِنْ صَالِحٍ بِهِ *** وإنْ كانَ فِيما لا تَرَى النّاسُ آلِيا
يعني : وإن كان فيما يرى الناس لا يألو .
وقال آخرون : بل هي مرفوعة بغير عمد . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن خلف العسقلانيّ ، قال : أخبرنا آدم ، قال : حدثنا حماد بن سلمة ، عن إياس بن معاوية ، في قوله : رَفَعَ السّمَوَاتِ بغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها قال : السماء مقببة على الأرض مثل القبة .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : بغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها قال : رفعها بغير عمد .
وأولى الأقوال في ذلك بالصحة أن يقال كما قال الله تعالى : اللّهُ الّذِي رَفَعَ السّمَوَاتِ بغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها فهي مرفوعة بغير عمد نراها ، كما قال ربنا جلّ ثناؤه . ولا خبر بغير ذلك ، ولا حجة يجب التسليم لها بقول سواه .
وأما قوله : ثُمّ اسْتَوَى على العَرْشِ فإنه يعني : علا عليه .
وقد بيّنا معنى الاستواء واختلاف المختلفين فيه والصحيح من القول فيما قالوا فيه بشواهده فيما مضى بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .
وقوله : وسَخّرَ الشّمْسَ والقَمَرَ يقول : وأجرى الشمس والقمر في السماء ، فسخرهما فيها لمصالح خلقه ، وذللهما لمنافعهم ، ليعلموا بجريهما فيها عدد السنين والحساب ، ويفصلوا به بين الليل والنهار .
وقوله : كُلّ يَجْرِي لأَجَل مسَمّى يقول جلّ ثناؤه : كل ذلك يجري في السماء لأجل مسمى : أي لوقت معلوم ، وذلك إلى فناء الدنيا وقيام القيامة التي عندها تكوّر الشمس ، ويُخسف القمر وتنكدر النجوم وحذف ذلك من الكلام لفهم السامعين من أهل لسان من نزل بلسانه القرآن معناه ، وأنّ «كلّ » لا بدّ لها من إضافة إلى ما تحيط به .
وبنحو الذي قلنا في قوله لأَجَل مُسَمّى قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وَسَخّرَ الشّمْسَ والقَمَرَ كُلّ يَجْرِي لأَجَل مُسَمّى قال : الدنيا .
وقوله : يُدَبّرُ الأمْرَ يقول تعالى ذكره : يقضي الله الذي رفع السموات بغير عمد ترونها أمور الدنيا والاَخرة كلها ، ويدبر ذلك كله وحده ، بغير شريك ولا ظهير ولا معين سبحانه .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : يُدَبّرُ الأمْرَ يقضيه وحده .
قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، بنحوه .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، بنحوه .
وقوله : يُفَصّلُ الاَياتِ يقول : يفصل لكم ربكم آيات كتابه ، فيبينها لكم احتجاجا بها عليكم أيها الناس ، لَعَلّكُمْ بِلِقاءِ رَبّكُمْ تُوقِنُونَ يقول : لتوقنوا بلقاء الله ، والمعاد إليه ، فتصدّقوا بوعده ووعيده ، وتنزجروا عن عبادة الاَلهة والأوثان ، وتخلصوا له العبادة إذا تيقنتم ذلك .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : لَعَلّكُمْ بِلِقاءِ رَبّكُمْ تُوقِنُونَ وأن الله تبارك وتعالى إنما أنزل كتابه ، وأرسل رسله لنؤمن بوعده ، ونستيقن بلقائه .