السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{يَـٰٓأَبَتِ لَا تَعۡبُدِ ٱلشَّيۡطَٰنَۖ إِنَّ ٱلشَّيۡطَٰنَ كَانَ لِلرَّحۡمَٰنِ عَصِيّٗا} (44)

النوع الثالث : قوله : { يا أبت لا تعبد الشيطان } فإنّ الأصنام ليس لها دعوة أصلاً والله تعالى قد حرّم عبادة غيره مطلقاً على لسان كل وليّ فتعين أن يكون الآمر بذلك الشيطان فكأنه هو المعبود بعبادتها في الحقيقة ثم علل هذا النهي بقوله { إنّ الشيطان } البعيد من كل خير المحترق باللعنة { كان للرحمن عصياً } بالقوّة من حين خلق وبالفعل من حين أمره بالسجود لأبيك آدم عليه السلام فأبى فهو عدوّ لله وله والمطيع للعاصي لشيء عاص لذلك الشيء لأنّ صديق العدوّ عدوّ .

فإن قيل : هذا القول يتوقف على إثبات أمور ؛ أحدها : إثبات الصانع ، وثانيها : إثبات الشيطان ، وثالثها : أنّ الشيطان عاص ، ورابعها : أنه لما كان عاصياً لم تجز طاعته ، وخامسها : أن الاعتقاد الذي كان عليه آزر مستفاد من طاعة الشيطان ومن شأن الدلالة التي تورد على الشخص أن تكون مركبة من مقدّمات معلومة ليسلمها الخصم ولعلّ إبراهيم كان منازعاً في هذه المقدّمات وكيف والمحكي عنه أنه ما كان يثبت إلهاً سوى نمروذ فكيف يسلم وجود الرحمن وإذا لم يسلم وجوده فكيف يسلم أنّ الشيطان عاص للرحمن وبتقدير تسليم ذلك فكيف يسلم الخصم بمجرّد هذا الكلام أنّ مذهبه مقتبس من الشيطان بل لعله يغلب ذلك على خصمه ؟ وأجيب : بأنّ الحجة المعوّل عليها في إبطال مذهب آزر هو قوله : { لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغنى عنك شيئاً } وهذا الكلام جرى مجرى التخويف والتحذير الذي يحمله على النظر في تلك الدلالة فيسقط السؤال .