السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{وَمَآ أَنزَلۡنَا عَلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ ٱلَّذِي ٱخۡتَلَفُواْ فِيهِ وَهُدٗى وَرَحۡمَةٗ لِّقَوۡمٖ يُؤۡمِنُونَ} (64)

ثم ذكر تعالى أنه مع هذا الوعيد الشديد ، قد أقام الحجة وأزاح العلة بقوله تعالى : { وما أنزلنا } ، أي : بما لنا من العظمة من جهة العلوّ . { عليك } يا أشرف المرسلين { الكتاب } ، أي : القرآن . { إلا لتبين لهم } ، أي : للناس . { الذي اختلفوا فيه } ، من أمر الدين ، مثل التوحيد والشرك ، وإثبات المعاد ونفيه ؛ فإنه كان فيهم من ينكر البعث ، ومنهم من يؤمن به ، ومنهم عبد المطلب ، ومثل تحريم الحلال كالبحيرة والسائبة ، وتحليلهم أشياء محرّمة كالميتة . فإن قيل : اللام في " لتبين لهم " تدل على أنّ أفعال الله تعالى معللة بالأغراض ، كقوله تعالى : { كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس } [ إبراهيم ، 1 ] . وقوله : { وما خلقت الجنّ والإنس إلا ليعبدون } [ الذاريات ، 56 ] ، أجيب : بأنه لما ثبت بالعقل امتناع التعليل ، وجب صرفه إلى التأويل . وقوله تعالى : { وهدى ورحمة } ، أي : وإكراماً بمحبة ، معطوفان على محل " لتبين " ، إلا أنهما انتصبا على أنهما مفعول لهما ؛ لأنهما فعلا الذي أنزل الكتاب ، ودخلت اللام على " لتبين " ؛ لأنه فعل المخاطب ، لا فعل المنزل ، وإنما ينتصب مفعولاً له ما كان فعل فاعل الفعل المعلل ، ولما كان ذلك ربما شملهم وهم على ضلالهم ، نفاه بقوله تعالى : { لقوم يؤمنون } ، ونظيره قوله تعالى في أوّل البقرة : { هدى للمتقين } [ البقرة ، 2 ] . وإنما خص المؤمنين بالذكر من حيث إنهم قبلوه وانتفعوا به ، كما في قوله تعالى : { إنما أنت منذر من يخشاها } [ النازعات ، 45 ] ؛ لأنه إنما انتفع بإنذراه هذا القوم فقط . ولما انقضى الدليل على أنّ قلوبهم منكرة استكباراً وما يتعلق به ، وختمه بما أحيا به القلوب في الإيمان والعلم بعد موتها بالكفر والجهل ، وكان المقصود الأعظم من القرآن تقرير أصول أربعة : الإلهيات ، والنبوّات ، والمعاد ، وإثبات القضاء والقدر والفعل بالاختيار ، وكان أجلّ هذه المقاصد الإلهيات ، شرع في ذكر الوحدانية والقدرة والفعل بالاختيار المستلزم للقدرة على البعث ، على وجه غير المتقدّم ليعلم أنّ أدلة ذلك أكثر من أوراق الأشجار ، وأجلى من ضياء النهار ، فعطف على قوله : { والله يعلم ما تسرون وما تعلنون } [ النحل ، 19 ] . قوله جامعاً في الدليل بين العالم العلوي والعالم السفلي .